في خضم النزاعات المسلحة، تصبح حماية الإعلاميين والطواقم الطبية والدفاع المدني مقياسًا حاسمًا لاحترام الأطراف المتحاربة للقوانين الدولية الإنسانية. هذه الفئات تمثل شريان الحياة في أوقات الأزمات؛ الإعلاميون ينقلون الحقيقة ويكشفون الجرائم للعالم، بينما يكرس العاملون الطبيون والدفاع المدني حياتهم لإنقاذ الأرواح وسط أتون الصراعات الأكثر دموية.
على مدى التاريخ، ارتكب الكيان الصهيوني مجازر مروعة بحق الفلسطينيين والشعوب العربية، تاركًا بصمة دامية في سجل الإنسانية. هذه الجرائم لم تكن مجرد أحداث عابرة، بل حملت طابعًا منهجيًا ومخططًا لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية، ودائمًا ما استهدفت المدنيين العزل. من أبرز هذه المجازر مجزرة دير ياسين (1948) التي شهدت مقتل مئات المدنيين بوحشية، ومجزرة قبية (1953) التي دمرت خلالها قرية بأكملها وقتل عشرات السكان، ومجزرة كفر قاسم (1956) التي أُعدم فيها العشرات من العائدين إلى منازلهم. كما ارتكب الكيان مجزرة صبرا وشاتيلا (1982) حيث تم قتل الآلاف في مخيمات اللاجئين بتواطؤ مباشر مع جيشه، ومجزرة الحرم الإبراهيمي (1994) التي شهدت اعتداء على المصلين في أحد أقدس الأماكن. بالإضافة إلى ذلك، كانت مجازر غزة المتكررة أعوام 2008، 2012، 2014، و2021 شاهدًا على إمعان الكيان في استهداف المدنيين والبنية التحتية.
ومؤخرًا، شن الكيان الصهيوني هجمات واسعة على غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، تسببت في مقتل الآلاف من المدنيين بينهم أعداد كبيرة من الأطفال والنساء، فضلًا عن تدمير المنازل والمستشفيات والمدارس. كما ارتكب مجازر مروعة في لبنان منذ أيلول/سبتمبر 2024، استهدفت قرى بأكملها وسببت نزوحًا واسعًا للسكان، مع تدمير ممنهج للبنية التحتية ومرافق الإغاثة.
تتزايد الانتهاكات الإسرائيلية الموثقة بحق الإعلاميين والطواقم الإنسانية بشكل متسارع في مناطق مختلفة من العالم العربي، ما يعكس سياسة ممنهجة تهدف إلى قمع الحريات وعرقلة جهود الإغاثة الإنسانية.
“الهجوم على الصحفيين في مناطق النزاع هو محاولة لإسكات الحقيقة وقمع العدالة. حمايتهم مسؤولية كل من يؤمن بالحرية.”
المديرة التنفيذية السابقة للاتحاد الدولي للصحفيين (IFJ)- جان كينغ
في لبنان، خلال عدوان 2006، استُهدفت مكاتب إعلامية عدة، بما في ذلك مقر قناة "المنار"، ما أدى إلى تدمير المعدات الإعلامية وبث الرعب بين الصحفيين، مما أدى إلى تعطيل جهود الإعلاميين في تغطية الأحداث وفضح الانتهاكات. كما تعرضت سيارات الإسعاف التابعة للهلال الأحمر والصليب الأحمر للقصف، مما أدى إلى مقتل أفراد من هذه الطواقم، وهو هجوم يتعارض مع أحكام القانون الدولي الإنساني الذي يضمن حماية الطواقم الطبية أثناء النزاعات. لم تقتصر الانتهاكات على ذلك، بل استهدفت مراكز الدفاع المدني في لبنان، ما أعاق بشكل كبير جهود إنقاذ المدنيين المتضررين من الهجمات، وهو انتهاك صارخ للقانون الدولي الذي يحظر الهجمات على فرق الإنقاذ والإغاثة الإنسانية.
أحد أفراد الدفاع المدني بعد ارتكاب الكيان الصهيوني مجزرة ضد مركز الدفاع المدني الإقليمي في منطقة دورس بمدينة بعلبك شرق لبنان، والتي أسفرت عن استشهاد 13 فردًا من عناصر الدفاع المدني. بينما كان يشاهد أشلاء زملائه، قال:
"والله ما عنا سلاح... حاملين دم الشهداء والمعدات الطبية."
أما في غزة، فقد بلغ عدد الصحفيين الذين قُتلوا أثناء تغطية النزاع في عام 2023 فقط 183 صحفيًا، وهو رقم صادم يعكس سياسة استهداف الإعلاميين بهدف إسكات الأصوات الحرة ومنع نقل الحقيقة للعالم. كما استهدفت إسرائيل المنشآت الطبية بشكل متكرر، حيث تعرضت مستشفى "الشفاء"، أكبر مستشفى في غزة، إلى قصف، بالإضافة إلى العديد من المراكز الطبية الأخرى، ما أدى إلى مقتل مئات الأشخاص وتدمير منشآت طبية حيوية. هذه الهجمات تمثل انتهاكًا صارخًا لقوانين الحرب التي تحظر استهداف المنشآت الطبية والإغاثية. وفي الوقت نفسه، استُهدفت فرق الدفاع المدني أثناء محاولاتها إنقاذ الضحايا من الغارات الجوية والهجمات الإسرائيلية، ما أدى إلى مقتل العديد من أفراد الدفاع المدني وتعطيل عمليات الإغاثة الإنسانية.
وفي لبنان، وبعد التصعيد الأخير، تخطّى العدوان الإسرائيلي عتبة الـ 14 ألفًا و500 جريح، وأدى إلى استشهاد 3445 شخصًا وفق حصيلة وزارة الصحة اللبنانية. كما أخرجت الغارات الإسرائيلية 8 مستشفيات عن الخدمة بشكل كامل في أنحاء البلاد، مع تدمير 7 مستشفيات أخرى جزئيًا، وألحقت أضرارًا جسيمة بمستشفيات في البقاع والضاحية الجنوبية، كما وثق تقرير وزارة الصحة اللبنانية أن 220 مستشفى ومستشفى ميداني تعرضوا للضرب، بالإضافة إلى 218 اعتداءً على الجمعيات الإسعافية. وفيما بلغ عدد شهداء القطاع الصحي 208 شهداء وجرحاه 311، استهدفت الهجمات 244 آلية نقل طبية.
تُظهر هذه الانتهاكات المتكررة في لبنان وغزة تجاهل الكيان الصهيوني الصارخ للقوانين الدولية التي تهدف إلى حماية المدنيين والطواقم الإنسانية والإعلامية. استهداف الصحفيين، الطواقم الطبية، والدفاع المدني ليس فقط انتهاكًا لحقوق الإنسان، بل هو محاولة ممنهجة لتقويض جهود الإغاثة الإنسانية وطمس الحقائق، مما يطرح تساؤلات هامة حول فعالية النظام القانوني الدولي في محاسبة المعتدين، وضرورة تفعيل آليات أكثر فاعلية للمحاسبة والردع.
من هنا نطرح الاشكالية التالية:
هل يكفي الإطار القانوني الدولي الحالي لضمان حماية المدنيين والإعلاميين والمنشآت المدنية والطواقم الطبية وردع الجرائم؟ أم أن العالم بحاجة إلى آليات أقوى وأكثر فاعلية، تخرج عن قيود السياسة وتفرض المحاسبة الحقيقية؟
القانون الدولي الإنساني يشكل الأساس لحماية المدنيين والعاملين في النزاعات المسلحة، بما في ذلك الإعلاميين والطواقم الطبية والدفاع المدني. هذه الحماية تستند إلى مجموعة من النصوص القانونية الدولية، أبرزها اتفاقيات جنيف لعام 1949، بروتوكولاتها الإضافية، القانون الدولي العرفي، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. إضافة إلى ذلك، تتداخل القوانين الدولية لحقوق الإنسان، وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، والقوانين الوطنية، مع هذه النصوص لتشكل إطارًا شاملًا يعزز حماية الأشخاص الذين يكرسون حياتهم لخدمة الإنسانية أو لنقل الحقيقة.
حماية الإعلاميين في النزاعات المسلحة
الإعلاميون الذين يعملون في مناطق النزاعات المسلحة يحظون بحماية خاصة وفقًا للقانون الدولي. المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 تنص بوضوح على أن الصحفيين المدنيين، الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية، يتمتعون بنفس الحماية الممنوحة للمدنيين. هذه المادة تهدف إلى تأمين سلامة الصحفيين الذين يؤدون دورًا حيويًا في نقل الحقيقة وكشف الجرائم إلى العالم.
إلى جانب ذلك، فإن القانون الدولي العرفي يُلزم جميع الأطراف المتحاربة باحترام الصحفيين وحمايتهم، بغض النظر عن طبيعة النزاع أو موقعه. هذا الالتزام الشامل يعكس أهمية حماية الإعلاميين باعتبارهم عناصر غير مسلحة تسعى لنقل الأحداث دون التدخل في العمليات العسكرية.
علاوة على ذلك، يعزز نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية هذه الحماية من خلال اعتبار الهجمات المتعمدة على المدنيين، بما في ذلك الصحفيون، جريمة حرب. وفقًا للمادة 8(2)(ب-1)، فإن استهداف الإعلاميين بشكل متعمد يندرج ضمن الجرائم التي تستوجب المحاكمة الدولية، مما يشكل رادعًا قانونيًا للمعتدين.
حماية الطواقم الطبية والدفاع المدني
تعد حماية الطواقم الطبية والدفاع المدني محورًا أساسيًا في القانون الدولي الإنساني. المادة 3 المشتركة في اتفاقيات جنيف لعام 1949، وهي مادة تطبق في جميع النزاعات المسلحة سواء كانت دولية أو غير دولية، تضمن حماية هؤلاء العاملين أثناء تأدية واجباتهم الإنسانية. النصوص القانونية تحظر بشكل قاطع استهداف المنشآت الطبية، مثل المستشفيات والمراكز الصحية، وكذلك المعدات الطبية وسيارات الإسعاف.
البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 يعزز هذه الحماية بمزيد من التفاصيل. المادة 15 تنص على حظر أي اعتداء على العاملين في الخدمات الطبية والدفاع المدني أثناء قيامهم بمهامهم الإنسانية. بالإضافة إلى ذلك، تشدد المادة 16 من البروتوكول على تجريم أي أفعال تعرقل تقديم المساعدة الطبية أو الإغاثية، سواء من خلال الاستهداف المباشر أو الإعاقة المتعمدة لوصول المساعدات.
من جانبه، يعالج نظام روما الأساسي هذه المسألة بشكل صارم، إذ تصف المادة 8(2)(ب-25) استهداف المنشآت الطبية وسيارات الإسعاف بأنه جريمة حرب. هذه النصوص القانونية تعكس إدراك المجتمع الدولي لأهمية الدور الذي تؤديه الطواقم الطبية والدفاع المدني في إنقاذ الأرواح وسط النزاعات، وتضع الإطار القانوني لحمايتهم من أي أعمال عدائية.
القانون الدولي لحقوق الإنسان وقرارات الأمم المتحدة
بالإضافة إلى القانون الدولي الإنساني، يوفر القانون الدولي لحقوق الإنسان حماية مستمرة خلال النزاعات المسلحة. العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 يضمن الحق في الحياة (المادة 6) وحرية التعبير (المادة 19)، مما يوفر إطارًا قانونيًا لحماية الصحفيين. كذلك، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 يدعم هذه الحماية من خلال تأكيد الحق في الأمن الشخصي وحرية التعبير.
قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، مثل قرار مجلس الأمن 1738 لعام 2006 بشأن حماية الصحفيين في النزاعات المسلحة، وقرارات الجمعية العامة بشأن الطواقم الطبية، تسلط الضوء على ضرورة تعزيز الحماية القانونية وتفعيل آليات المساءلة الدولية.
القوانين الوطنية والمسؤولية عن الحماية
تلعب القوانين الوطنية دورًا مكملًا في تفعيل الإطار القانوني الدولي. يتوجب على الدول تكييف قوانينها لتجريم استهداف الإعلاميين والطواقم الإنسانية وضمان محاسبة مرتكبي هذه الجرائم. إضافة إلى ذلك، مبدأ "المسؤولية عن الحماية" الذي تبنته الأمم المتحدة عام 2005 يشدد على مسؤولية الدول والمجتمع الدولي في حماية المدنيين من الجرائم الفظيعة، بما في ذلك الجرائم المرتكبة ضد الإعلاميين والطواقم الطبية.
المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني
تعتمد الحماية القانونية التي يوفرها القانون الدولي الإنساني على ثلاثة مبادئ أساسية: التمييز، والضرورة العسكرية، والتناسب. مبدأ التمييز يُلزم الأطراف المتحاربة بالتمييز بين الأهداف العسكرية والمدنيين، مما يجعل استهداف الإعلاميين والطواقم الإنسانية غير مشروع. لا يُسمح لأي طرف بالتحايل على هذا المبدأ لتبرير هجماته على الفئات المحمية.
أما مبدأ الضرورة العسكرية، فيحظر استخدام القوة إلا لتحقيق فائدة عسكرية حقيقية ومحددة. أي إجراء يتسبب في معاناة المدنيين دون أن يسهم بشكل مباشر في تحقيق هدف عسكري يُعد انتهاكًا صارخًا لهذا المبدأ.
وأخيرًا، مبدأ التناسب يفرض قيودًا على الهجمات التي قد تؤدي إلى أضرار مفرطة مقارنة بالفائدة العسكرية المتوقعة. يهدف هذا المبدأ إلى تقليل معاناة المدنيين إلى أدنى حد ممكن، حتى في سياق الأعمال العسكرية الضرورية.
على الرغم من هذه النصوص الصارمة والمبادئ الواضحة، تظهر الانتهاكات المتكررة في مناطق النزاع، وخاصة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، مدى التحدي الذي يواجهه القانون الدولي الإنساني في التطبيق الفعلي. القوانين توفر إطارًا متينًا للحماية، لكن غياب آليات التنفيذ القوية والمحاسبة الفورية يجعل الانتهاكات تستمر بلا رادع. لذلك، هناك حاجة ملحة لتفعيل دور المحكمة الجنائية الدولية وتطوير أدوات رقابة دولية فعالة لضمان حماية الإعلاميين والطواقم الإنسانية، ومنع الإفلات من العقاب.
إضافة إلى ذلك، يتوجب على المجتمع الدولي تعزيز استخدام المبادئ القانونية مثل مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وتكثيف الجهود في دعم آليات التحقيق الدولية لملاحقة الجناة وضمان محاكمتهم. هذه الجهود تتطلب تعاونًا مستدامًا بين الدول والمجتمع الدولي لتعزيز الحماية وضمان المحاسبة لكون جرائمهم لا تقتصر على كونها انتهاكات للقانون الدولي الإنساني، بل هي دليل على استراتيجية منهجية تهدف إلى قمع الإعلام الحر وتعطيل جهود الإغاثة الإنسانية في مناطق النزاع. من خلال استهداف هذه الفئات المحمية قانونيًا، يُظهر الاحتلال الإسرائيلي استخفافًا واضحًا بالمبادئ الدولية التي تهدف إلى حماية المدنيين وضمان إيصال المساعدات الإنسانية.
إن فشل المجتمع الدولي في إلزام الكيان الصهيوني باحترام التزاماتها القانونية يسلط الضوء على ضعف آليات التنفيذ الدولية، ويفرض تساؤلات جوهرية حول فعالية الإطار القانوني الحالي في حماية الإعلاميين والطواقم الإنسانية. ومع استمرار هذه الانتهاكات، تصبح الحاجة ملحة إلى إصلاح شامل يُعزز من قدرة القانون الدولي على حماية هذه الفئات وضمان المساءلة الفورية للمعتدين.
التوصيات:
لمواجهة هذا التحدي، تبرز عدة خطوات أساسية يجب اتخاذها لتعزيز الحماية وضمان تطبيق القانون الدولي:
1. تعزيز المحاسبة الدولية: إحالة الجرائم المرتكبة إلى المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من المحافل القانونية لضمان عدم إفلات مرتكبيها من العقاب.
2. إنشاء آليات رصد مستقلة: دعم الهيئات والمنظمات الدولية لتوثيق الانتهاكات بشكل منهجي وبناء أدلة قانونية قوية تدعم القضايا أمام المحاكم الدولية.
3. تدريب الإعلاميين والطواقم الإنسانية: توفير برامج تدريب متخصصة لمساعدتهم على التعامل مع المخاطر التي يواجهونها في مناطق النزاع.
4. تعزيز الضغط الدولي: دعوة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والدول الأعضاء لاتخاذ مواقف حاسمة تضمن التزام الأطراف المتحاربة بالقانون الدولي الإنساني.
5. إنشاء مناطق آمنة: تحديد مواقع محمية مخصصة للإعلاميين والطواقم الإنسانية بإشراف دولي، مما يضمن توفير بيئة أكثر أمانًا أثناء النزاعات.
لقد حان الوقت لأن يتحرك المجتمع الدولي بكل جدية، عبر مجلس الأمن والمحاكم الدولية، لمحاسبة المعتدين على الإعلاميين والطواقم الإنسانية الذين يضحون بأرواحهم من أجل نقل الحقيقة وإنقاذ الأرواح. لا بد من تعزيز آليات تقديم الشكاوى، لتكون هذه خطوة حاسمة نحو تحقيق العدالة ومنع الإفلات من العقاب، وضمان حماية المدنيين في جميع مناطق النزاع، وحماية حقوق الإنسان من التنكيل والظلم.